«حواريّة الصّوم»
بدأ أبي حديثه عن شهر رمضان وفي صوته بحّةٍ مرتعشة، وفي عينيه نثارة من دمع متوهّج مشتعل، وفي روحه ينبوع من حنان متفجّر. فاسم رمضان يقترن عنده بكل المعاني العذبة الجميلة الخيّرة للصفح والسماح والبركة والرّحمة والمغفرة والرّضوان.
ومن أجل أن يثبّت قناعاته تلك ويُوثق مشاعره نقلني الى مشهد يعبق بعطر الجلال ووسامة المهابة.. الى حيث يقف رسول الله صلى الله عليه وآله محاطاً بأهل بيته واصحابه يخطب فيهم، فيقول: «أيّها الناس اِنّه قد أقبل اِليكم شهر الله بالبركة والرّحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيّامه أفضل الاَيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه الى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة. وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب فسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفّقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فاِن الشّقي من حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم.
أيّها الناس اِن أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة. فسلوا ربكم أن لا يغلقها عليكم. وابواب النيران مغلقة، فسَلوا ربكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة، فسلوا ربّكم أن لا يسلطها عليكم».
قرأ ذلك، ثم أنعطف بي الى شقٍ من خطبة النبي الكريم صلى الله عليه وآله وكأنّه يريد ان يشير لي الى ما ينبغي عليّ عمله في هذا الشهر المبارك فقرأ عليَّ قوله صلى الله عليه وآله : «أيّها الناس من فطَّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق رقبة، ومغفرة لما مضى من ذنوبه».
قيل: يا رسول الله وليس كلنا نقدر على ذلك. فقال صلى الله عليه وآله: «اِتّقوا النار ولو بشقّ تمرة.. اِتقوا الله ولو بشربة من ماء. فاِن الله تعالى يهب ذلك الاَجر لمن عمل هذا اليسير اِذا لم يقدر على اكثر منه...
يا أيّها الناس من حَسَّن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الاَقدام، ومن خفَّفَ في هذا الشهر عما ملكت يمينه خفَّف الله عليه حسابه. ومن كفَّ فيه شرّه كف الله عنه غضبه يوم يلقاه ومن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه، ومن وصل فيه رحمه وصلّه الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه، ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور».
وما أن أنتهى بي الى هذا الموضع من خطبة النبي صلى الله عليه وآله حتى تناول بالنقد والتجريح بعضاً من المظاهر السلوكيّة لصائمين يظنّون أن الصوم هو الامتناع عن الاكل والشرب فقط، موثقاً تجريحه ذاك بحديث للاِمام عليّ عليه السلام قال فيه: «كم من صائمٍ ليس له من صيامه اِلاّ الظمأ، وكم من قائم ليس له من قيامه اِلاّ العناء».
ثمّ أردف بحديث آخر للاِمام الصادق عليه السلام قال فيه: «اِذا أصبحت صائماً فليصم سمعك وبصرك وشعرك وجلدك وجميع جوارحك»، وقال عليه السلام أيضاً: «اِن الصيام ليس من الطعام والشراب وحدهما، فاِذا صمتم فاحفظوا السنتكم عن الكذب، وغضّوا أبصاركم عمّا حَرَّمَ الله، ولا تنازعوا، ولا تحاسدا، ولا تغتابوا ولا تسابّوا، ولا تشاتموا، ولا تظلموا، ... واجتنبوا قول الزور، والكذب والخصومة، وظنّ السوء، والغيبة، والنميمة، وكونوا مشرفين على الاَخرة، منتظرين لاَيامكم، منتظرين لما وعدكم الله، متزوّدين للقاء الله، وعليكم السكينة والوقار، والخشوع والخضوع، وذلّ العبيد الخيف من مولاها خائفين راجين».
ثمّ قصَّ عليّ بعد ذلك قصة حدثت مع رسول الله صلى الله عليه وآله، فقد سمع النّبيّ صلى الله عليه وآله: امرأة تسبَّ جارية وهي صائمة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله بطعام فقال لها: «كلي» . فقالت: اِنّي صائمة يا رسول الله «كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك اِن الصوم ليس من الطعام والشراب وانّما جعل الله ذلك حجاباً عن سواهما من الفواحش من الفعل والقول، ما أقلَّ الصوّم وأكثر الجوع».